لطالما اثارت هذه الآيات فضولي، فالله جل جلاله يتحدث عن خلق عظيم، ولكني بحثت في المصادر العلمية ولم أجد شيئاً يتناسب مع حجم هذا الخلق! فكلما قرأت هذه الآيات وتأملت بها ازداد التسائل، أين هما هذين البحرين وكيف يلتقي هذان البحران وبينهما برزخ لا يبغيان، بمعنى لا يدخل احدهما على الآخر. ولماذا سميت دولة البحرين بهذا الاسم، فقد كان اسمها قبل العهد الاسلامي دلمون في الألفية الثالثة قبل الميلاد ومن ثم تايلوس وارادوس، وهما اسمان أطلقهما اليونانيون على جزيرتي “المنامة والمحرق”،  وفي القرن الثالث قبل الميلاد، ورد اسم أوال والذي يرتبط بإله لقبيلة وائل التي سكنت البحرين سابقاً قبل الإسلام.

{ مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } * { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } – الرحمن 19

لا يتوقف هذا الموضوع هنا، فقد انزل الله الآيات التالية والتي تتحدث عن عظمة هذه المعجزة الالهية وهي:

{ وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً} – الفرقان 53

{ أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } – النمل 61

{ وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } – فاطر 12

فمن صفات البحر المالح انه ملح اُجاج أو مزّ، بينما صفات البحر الآخر بأنه: 1- عذبٌ فرات أي نقي و 2- سائغ شرابه أي صالح للشرب بشكل مباشر! كما وأن الآيات بمجملها تخبرنا بأن هناك فاصلا بين البحرين وصف بالحاجز والبرزخ والحجر المحجور. سميت سورة كاملة باسم الحِجر وهم قوم ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، فالحِجر هو الصخر! ومعنى البَرْزَخ : الحاجز بين شيئيْن

السوشال ميديا

طالما وصلتنا صور مختلفة على وسائل التواصل الاجتماعي بأن هذان البحران يلتقيان على السطح وهناك فاصل واضح بينهما وأن هذه الظاهرة هي تفسير للآية الكريمة.

والسؤال هو، هل تستطيع الشرب من أي من هذين البحرين؟من الواضح بأن هذه الظاهرة تحدث عند التقاء مصبات الانهر مع البحار، وهذه الصور تخلو من صفات العذوبة والنقاء والشراب السائغ. كان هذا أحد الاسباب التي لم تقنعني بهذا التشبيه، واستمرت الحيرة في ذهني …

ماذا يقول العلم الحديث

بتاريخ 22-6-2019، اي قبل اربعة أيام من بدء كتابتي لهذه المقالة، نشرت مجلة كوارتز مقالة بعنوان “العلماء يكتشفون بحراً من الماء العذب تحت المحيط” أو “Scientists have discovered a sea of fresh water under the ocean”، اعتمد العلماء في هذا البحث على خاصية استجابة المياه المالحة بطريقة مختلفة عن المياه العذبة مع الامواج الكهرومناطيسية باطوال معينة، إذ قاموا بقطر اجهزة الارسال خلف سفن البحث وقاموا بتحليل النتائج من خلال مجسات والتي بينت أن هناك طبقة من الماء العذب تحت سطح البحر.

لطالما عرف الباحثون عن النفط في البحار والمحيطات بوجود مياه عذبة خلال عملية الحفر وظنوا انها حالات منعزلة، ولكنهم لم يكونوا على علم بالحجم الهائل للماء الموجود، والذي يقدر حجمه المبدئي في منطقة الاكتشاف بضعف حجم بحيرة اونتاريو، احدى البحيرات العظمى. قام العلماء من جامعة كولومبيا ومعهد وودز هول للبحوث المحيطية باستخدام سفن تقوم بقطر اجهزة بث ورصد الامواج الكهرومغناطيسية بمنطقتين في الساحل الشرقي للولايات المتحدة كما هو مبين في الشكل المجاور وتم رصد الماء العذب في المناطق الصفراء على عمق يقارب 180 متر تحت طبقة صخرية تمتد الى مئات الكيلومترات. 

يعتقد العلماء بأن هذه البحار العذبة، وكما هو مبين في الشكل المجاور باللون الاصفر، تشكلت قبل الاف السنين عند انتهاء العصر الجليدي، حيث بدأت الطبقة الثلجية بالذوبان وبدأت البحار بالارتفاع وحوصرت المياه العذبة تحت الطبقة المتشكلة من الصخور الرسوبية. من صفات هذا الماء العذب بأنه بالغ النقاوة ومحصور تحت طبقة صخرية رسوبية. كما ويعتقد العلماء بأن هذه الظاهرة قد توجد في اماكن مختلفة تحت البحار في العالم.

الماء الذي نشربه ليس نقياً، إذ تبلع نسبة الملوحه فيه 1 الى الألف، بينما يعتبر الماء في المنطقة الصفراء في الصورة أقرب الى النقاء وفي المناطق الخضراء يصل الى 15 الى الالف، وهي تقريبا نصف ملوحة مياه البحر البالغة 35 لكل الف.

كتب التفسير

لطالما اعتمدنا في موقع فصّلت على كتب التفسير، إذ انها تحتوي على دلالات ومؤشرات بالغة الدقة.

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :
( وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا ) أي : بين العذب والمالح ، ( برزخا ) أي : حاجزاً ، وهو اليَبَس من الأرض ، ( وَحِجْرًا مَحْجُورًا ) أي : مانعاً أن يصل أحدهما إلى الآخر وتفسير ( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ) أي : وجعل بينهما برزخا ، وهو : الحاجز من الأرض ، لئلا يبغي هذا على هذا ، وهذا على هذا ، فيفسد كل واحد منهما الآخر، ويزيله عن صفته التي هي مقصودة منه. وقوله : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ) قال ابن عباس : أي : أرسلهما.

ويقول العلامة السعدي رحمه الله :
المراد بالبحرين : البحر العذب ، والبحر المالح ، فهما يلتقيان كلاهما ، فيصب العذب في البحر المالح ، ويختلطان ويمتزجان ، ولكن الله تعالى جعل بينهما برزخا من الأرض ، حتى لا يبغي أحدهما على الآخر ، ويحصل النفع بكل منهما ، فالعذب منه يشربون وتشرب أشجارهم وزروعهم ، والملح به يطيب الهواء ويتولد الحوت والسمك واللؤلؤ والمرجان ، ويكون مستقرا مسخرا للسفن والمراكب “

وجه الشبه

هل بدأت العلاقة تتضح بين الشكل أعلاه وبين ما ورد في الآيات الكريمة وكتب التفسير؟ فهناك بحر عذب فرات سائغ شرابه ومن فوقه “برزخا وحجرا محجوراً” ومن فوقه بحر اجاج. هذان البحران يلتقيان كما هو مبين في منتصف الشكل، وهذا ما أخبرنا به تعالى في سورة الرحمن بأنهما يلتقيان، فمعني كلمة “مرج” هو اختلط، وقد ذكر كثير من الغطاسين الباحثين عن اللؤلؤ بأن هناك ينابيع ماء عذبة في قاع الخليج العربي يشربون منها (سائغ شرابه)! وهنا تتجلّى بلاغة القرآن والحجم الهائل لهذه المعجزة الالهية والتي لم يستطع العقل البشري رؤيتها أو حتى تصورها، لانها تقع تحت قاع البحر أو المحيط. فـ { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }

ويبقى السؤال … ماذا يحدث عند اختلاط البحرين؟

{ يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ }

*

 { فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }

يبدو أن اللؤلؤ والمرجان لا تعيش الا في مناطق التقاء الماء العذب مع ماء البحر واختلاطهما، لاحظ وجه التشابه بين كلمتي مَرَجَ و مَرجان!

وما علاقة دولة البحرين بالموضوع؟ “يرجع سبب تسمية البحرين بهذا الاسم، نسبة إلى أكبر جزيرة بها ونتيجة لوجود مياة الينابيع العذبة، والتي تعرف باسم الكواكب وسط مياة البحر المالح”. أنصح دولة البحرين بحفر الآبار تحت الخليج لانها ستحصل على ماء عذب وستوفر نصف فاتورة طاقتها نتيجة عدم حاجتها لتحلية المياه!

بقلم: حسين أحمد كتّاب

المراجع:

1. موقع كوارتز
2. اسلام سؤال وجواب
3. موقع فيز
4. البحث بالكامل Chloe Gustafson et al