مقالة تفسّر كيف ألان الله الحديد لنبيّة داوود وكيف أدى هذا التغيير الى قفزة في التفوق العسكري وانتقال العالم ككل من العصر البرونزي الى العصر الحديدي. تاريخياً، هناك تطابق هائل بين الحقبة الزمنية لسيدنا داوود وبين انتقال الحضارات الى العصر الحديدي. انفرد القرآن في هذا الموضوع ولا يوجد نص شبيه في العهد القديم أو الجديد أو في التاريخ ينسب هذه النقلة الحضارية الى شخص بعينه أو حضارة بعينها، ففي بضع كلمات، وثّق الله بداية العصر الحديدي.
استخدام الحديد
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) – سبأ 10
اكتشف الانسان الحديد الناتج عن النيازك قبل 5500 سنة ولكنه لم يستطع استخدامه كمنفعة في حياته اليومية، استطاع الانسان استخراج خام الحديد من الأرض وصهره وصبه في قوالب أو صفائح خلال الدولة الحيثيية في تركيا 1400 ق م، ولكن هذا الحديد كان هشاً وغير قابل للثني أو الطرق لغاية التشكيل بسبب ارتفاع نسبة الكربون فيه، وبالتالي فإن استخدام الحديد كمنافع للناس على شكل أدوات أو في صناعة السلاح لم تُحدث أي فائدة تذكر أمام الأواني النحاسية والأسلحة البرونزية.


في قاموس المعاجم، ليَّنَ الشَّيءَ: جعله ليِّنًا مَرِنًا طائِعًا ليَّن الحديدَ بالنّار، وفي حديث اقامة الصفوف، “ولِينُوا بأيدي إخوانِكم”، أي: لِينوا بيَدِ مَنْ أراد أنْ يَضْبِطَ بكُم الصَّفَّ ويُسوِّيَه، فلا يتَشدَّدْ معه أو يَمْنعْه أَحَدٌ نَفْسَه أنْ يُسوِّيَ له الصَّفَّ،
ألان الله الحديد لسيدنا داوود عليه السلام؛ (أي: جعله ليِّنا)، {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ} تقريبا ما بين 1040 – 970 قبل الميلاد، علمياً، تم ذلك بسكب الحديد داخل وعاء من الحجر الجيري والذي بدوره أدى الى تخفيض نسبة الكربون في الحديد الى أقل من 0.08% وبالتالي، ولأول مرّة، أدى إلى انتاج الفولاذ Steel أو الحديد المطاوع أو الحديد القابل للطرق Wrought Iron.

كما وعلم الله سيدنا داوود صنعةً لَبوسا وهي نوع من اللِباس الحربي أو القميص المصنوع من الحلقات الحديدية (سرد الحديد) لتَقيه هو وجيشه من بأسهم! { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } وتفسيرها “حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { وَعَلَّـمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ…. } الآية، قال: كانت قبل داود صفـائح، قال: وكان أوّل من صنع هذا الـحَلَق وسَرَده داود“. وهذا التفسير يؤكد أن معنى إلانَة الحديد هو أنه أصبح قابلاً للطرق والتشكيل، ففي السابق كانت صفائح غير قابلة للتشكيل والطرق. وفي قوله تعالى {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} فالسابغات هي الدروع والسرد هي حلَق الحديد كما نراه في الصورة أدناه.
وبالتالي فان سيدنا داوود كان يمتلك ميزة تكنولوجية فوق أعدائه، فكان هو وجيشه يحاربون بالسيوف الحادة المصنوعة من الحديد المطروق ويرتدون الدرع الخفيف المسرود من حَلَق الحديد، بينما كان خُصومه يستخدمون السيوف البرونزية الثقيلة التي تتهشم وتتكسّر بأيديهم، أو من الدروع الثقيلة المصنوعة من الصفائح والتي تحد من الحركة. لا بد أن هذا التقدم التكنولوجي تلاشى بعد حكم إبنه النبي سليمان وعاد ميزان القوى الى وضعه الطبيعي بعد انتشار هذه الصناعة.

ما قد يبدو مصادفة، هو في الواقع حقيقة، وهو أن العصر الحديدي تزامن تاريخيا مع حياة نبي الله داوود (1040 – 970 قبل الميلاد) وهي ذات الفترة لإنهيار العصر البرونزي، وقد اضفنا هذا الرابط على ويكيبيديا والذي يحتوي على الحقبات الزمنية التقريبية لدخول الحضارات المختلفة في العصر الحديدي.
هذه القصة حصرية في القرآن، لم يرد شيء مشابه لها في العهد القديم أو في التاريخ، علماً بأن القرآن في طابعه يصحح الأحداث الواردة في العهد القديم مثل أولاد سيدنا نوح وخصوصا كنعان، وسيدنا لوط وبناته وقصص سيدنا موسى وهنا في قصة سيدنا داوود.
الخلاصة
هذه الآيات تشير إلى حدث مفصلي، وتحتوي على إعجار علمي وتوثيق تاريخي وعسكري وبلاغي لم ولن يرد له مثيل في كتب الأقدمين والآخرين. ففي بضع كلمات، وثّق الله بداية العصر الحديدي.
بقلم: حسين أحمد كتّاب
الرابط المختصر: https://wp.me/p2h5WJ-1st


